الجمعة، 21 سبتمبر 2012

«و لمن خاف مقام ربه جنتان» الرحمن 46

الميزان في تفسير القرآن
سورة الرحمن
31 - 78
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (78)
بيان
هذا هو الفصل الثاني من آيات السورة يصف نشأة الثقلين الثانية و هي نشأة الرجوع إلى الله و جزاء الأعمال و يعد آلاء الله تعالى عليهم كما كانت الآيات السابقة فصلا أولا يصف النشأة الأولى و يعد آلاء الله فيها عليهم.
قوله تعالى: «سنفرغ لكم أيه الثقلان» يقال: فرغ فلان لأمر كذا إذا كان مشتغلا قبلا بأمور ثم تركها و قصر الاشتغال بذاك الأمر اهتماما به.
فمعنى «سنفرغ لكم» سنطوي بساط النشأة الأولى و نشتغل بكم، و تبين الآيات التالية أن المراد بالاشتغال بهم بعثهم و حسابهم و مجازاتهم بأعمالهم خيرا أو شرا فالفراغ لهم استعارة بالكناية عن تبدل النشأة.
و لا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فإن الفراغ المذكور ناظر إلى تبدل النشأة و كونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة و سعتها كما لا ينافي كونه تعالى كل يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشئون كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.
و الثقلان الجن و الإنس، و إرجاع ضمير الجمع في «لكم» و «إن استطعتم» و غيرهما إليهما لكونهما جمعا ذا أفراد.
قوله تعالى: «يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا» إلخ، الخطاب - على ما يفيده السياق - من خطابات يوم القيامة و هو خطاب تعجيزي.
و المراد بالاستطاعة القدرة، و بالنفوذ من الأقطار الفرار، و الأقطار جمع قطر و هو الناحية.
و المعنى: يا معشر الجن و الإنس - و قدم الجن لأنهم على الحركات السريعة أقدر - إن قدرتم أن تفروا بالنفوذ من نواحي السماوات و الأرض و الخروج من ملك الله و التخلص من مؤاخذته ففروا و انفذوا.
و قوله: «لا تنفذون إلا بسلطان» أي لا تقدرون على النفوذ إلا بنوع من السلطة على ذلك و ليس لكم و السلطان القدرة الوجودية، و السلطان البرهان أو مطلق الحجة، و السلطان الملك.
و قيل: المراد بالنفوذ المنفي في الآية النفوذ العلمي في السماوات و الأرض من أقطارهما، و قد عرفت أن السياق لا يلائمه.
قوله تعالى: «يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران» الشواظ - على ما ذكره الراغب - اللهب الذي لا دخان فيه، و يقرب منه ما في المجمع، أنه اللهب الأخضر المنقطع من النار، و النحاس الدخان و قال الراغب: هو اللهب بلا دخان و المعنى ظاهر.
و قوله: «فلا تنتصران» أي لا تتناصران بأن ينصر بعضكم بعضا لرفع البلاء و التخلص عن العناء لسقوط تأثير الأسباب و لا عاصم اليوم من الله.
قوله تعالى: «فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان» أي كانت حمراء كالدهان و هو الأديم الأحمر.
قوله تعالى: «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان» الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة تصف الحساب و الجزاء تصف حال المجرمين و الخائفين مقام ربهم و ما ينتهي إليه.
ثم الآية تصف سرعة الحساب و قد قال تعالى: «و الله سريع الحساب»: النور: 39.
و المراد بيومئذ يوم القيامة، و السؤال المنفي هو النحو المألوف من السؤال، و لا ينافي نفي السؤال في هذه الآية إثباته في قوله: «و قفوهم إنهم مسئولون»: الصافات: 24، و قوله: «فو ربك لنسألنهم أجمعين»: الحجر: 92، لأن اليوم ذو مواقف مختلفة يسأل في بعضها، و يختم على الأفواه في بعضها و تكلم الأعضاء، و يعرف بالسيماء في بعضها.
قوله تعالى: «يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى و الأقدام» في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإذا لم يسألوا عن ذنبهم فما يصنع بهم؟ فأجيب بأنه يعرف المجرمون بسيماهم إلخ، و لذا فصلت الجملة و لم يعطف، و المراد بسيماهم علامتهم البارزة في وجوههم.
و قوله: «فيؤخذ بالنواصي و الأقدام» الكلام متفرع على المعرفة المذكورة، و النواصي جمع ناصية و هي شعر مقدم الرأس، و الأقدام جمع قدم، و قوله: «بالنواصي» نائب فاعل يؤخذ.
و المعنى: - لا يسأل أحد عن ذنبه - يعرف المجرمون بعلامتهم الظاهرة في وجوههم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام من المجرمين فيلقون في النار.
قوله تعالى: «هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون - إلى قوله - آن» مقول قول مقدر أي يقال يومئذ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، و قال الطبرسي: و يمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي و الأقدام قال للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم): هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك فسيردونها فليهن عليك أمرهم.
انتهى.
و الحميم الماء الحار، و الآني الذي انتهت حرارته و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» شروع في وصف حال السعداء من الخائفين مقام ربهم، و المقام مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى فاعله، و المراد قيامه تعالى عليه بعمله و هو إحاطته تعالى و علمه بما عمله و حفظه له و جزاؤه عليه قال تعالى: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت»: الرعد: 33.
و يمكن أن يكون المقام اسم مكان و الإضافة لامية و المراد به مقامه و موقفه تعالى من عبده و هو أنه تعالى ربه الذي يدبر أمره و من تدبير أمره أنه دعاه بلسان رسله إلى الإيمان و العمل الصالح و قضى أن يجازيه على ما عمل خيرا أو شرا هذا و هو محيط به و هو معه سميع بما يقول بصير بما يعمل لطيف خبير.
و الخوف من الله تعالى ربما كان خوفا من عقابه تعالى على الكفر به و معصيته، و لازمه أن يكون عبادة من يعبده خوفا بهذا المعنى يراد بها التخلص من العقاب لا لوجه الله محضا و هو عبادة العبيد يعبدون مواليهم خوفا من السياسة كما أن عبادة من يعبده طمعا في الثواب غايتها الفوز بما تشتهيه النفس دون وجهه الكريم و هي عبادة التجار كما في الروايات و قد تقدم شطر منها.
و الخوف المذكور في الآية - و لمن خاف مقام ربه - ظاهره غير هذا الخوف فإن هذا خوف من العقاب و هو غير الخوف من قيامه تعالى على عبده بما عمل أو الخوف من مقامه تعالى من عبده فهو تأثر خاص ممن ليس له إلا الصغار و الحقارة تجاه ساحة العظمة و الكبرياء، و ظهور أثر المذلة و الهوان و الاندكاك قبال العزة و الجبروت المطلقين.
و عبادته تعالى خوفا منه بهذا المعنى من الخوف خضوع له تعالى لأنه الله ذو الجلال و الإكرام لا لخوف من عقابه و لا طمعا في ثوابه بل فيه إخلاص العمل لوجهه الكريم، و هذا المعنى من الخوف هو الذي وصف الله به المكرمين من ملائكته و هم معصومون آمنون من عقاب المخالفة و تبعة المعصية قال تعالى: «يخافون ربهم من فوقهم»: النحل: 50.
فتبين مما تقدم أن الذين أشار إليهم بقوله: «و لمن خاف» أهل الإخلاص الخاضعون لجلاله تعالى العابدون له لأنه الله عز اسمه لا خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه، و لا يبعد أن يكونوا هم الذين سموا سابقين في قوله: «و كنتم أزواجا ثلاثة - إلى أن قال - و السابقون السابقون أولئك المقربون»: الواقعة: 11.
و قوله: «جنتان» قيل: إحداهما منزله و محل زيارة أحبابه له و الأخرى منزل أزواجه و خدمه، و قيل: بستانان بستان داخل قصره و بستان خارجه، و قيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر ليكمل به التذاذه، و قيل: جنة لعقيدته و جنة لعمله، و قيل: جنة لفعل الطاعات و جنة لترك المعاصي، و قيل: جنة جسمانية و جنة روحانية و هذه الأقوال - كما ترى - لا دليل على شيء منها.
و قيل: جنة يثاب بها و جنة يتفضل بها عليه، و يمكن أن يستشعر ذلك من قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35، على ما مر في تفسيره.
قوله تعالى: «ذواتا أفنان» ذواتا تثنية ذات، و «أفنان» إما جمع فن بمعنى النوع و المعنى: ذواتا أنواع من الثمار و نحوها، و إما جمع فنن بمعنى الغصن الرطب اللين و المعنى: ذواتا أغصان لينة أشجارهما.
قوله تعالى: «فيهما عينان تجريان» و قد أبهمت العينان و فيه دلالة على فخامة أمرهما.
قوله تعالى: «فيهما من كل فاكهة زوجان» أي صنفان قيل: صنف معروف لهم شاهدوه في الدنيا و صنف غير معروف لم يروه في الدنيا، و قيل: غير ذلك، و لا دلالة في الكلام على شيء من ذلك.
قوله تعالى: «متكئين على فرش بطائنها من إستبرق» إلخ، الفرش جمع فراش، و البطائن جمع بطانة و هي داخل الشيء و جوفه مقابل الظهائر جمع ظهارة، و الإستبرق الحرير الغليظ قال في المجمع،: ذكر البطانة و لم يذكر الظهارة لأن البطانة تدل على أن لها ظهارة و البطانة دون الظهارة فدل على أن الظهارة فوق الإستبرق، انتهى.
و قوله: «و جنى الجنتين دان» الجنى الثمر المجتنى و «دان» اسم فاعل من الدنو بمعنى القرب أي ما يجتنى من ثمار الجنتين قريب.
قوله تعالى: «فيهن قاصرات الطرف» إلى آخر الآية ضمير «فيهن» للفرش و جوز أن يرجع إلى الجنان فإنها جنان لكل واحد من أولياء الله منها جنتان، و الطرف جفن العين، و المراد بقصور الطرف اكتفاؤهن بأزواجهن فلا يردن غيرهم.
و قوله: «لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان» الطمث الافتضاض و النكاح بالتدمية، و المعنى: لم يمسسهن بالنكاح إنس و لا جان قبل أزواجهن.
قوله تعالى: «كأنهن الياقوت و المرجان» أي في صفاء اللون و البهاء و التلالؤ.
قوله تعالى: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» استفهام إنكاري في مقام التعليل لما ذكر من إحسانه تعالى عليهم بالجنتين و ما فيهما من أنواع النعم و الآلاء فيفيد أنه تعالى يحسن إليهم هذا الإحسان جزاء لإحسانهم بالخوف من مقام ربهم.
و تفيد الآية أن ما أوتوه من الجنة و نعيمها جزاء لأعمالهم و أما ما يستفاد من بعض الآيات أنهم يعطون فضلا وراء جزاء أعمالهم فلا تعرض في هذه الآيات لذلك إلا أن يقال: الإحسان إنما يتم إذا كان يربو على ما أحسن به المحسن إليه فإطلاق الإحسان في قوله: «إلا الإحسان» يفيد الزيادة.
قوله تعالى: «و من دونهما جنتان» ضمير التثنية للجنتين الموصوفتين في الآيات السابقة و معنى.
«من دونهما» أي أنزل درجة و أحط فضلا و شرفا منهما و إن كانتا شبيهتين بالجنتين السابقتين في نعمهما و آلائهما، و قد تقدم أن الجنتين السابقتين لأهل الإخلاص الخائفين مقام ربهم فهاتان الجنتان لمن دونهم من المؤمنين العابدين لله سبحانه خوفا من النار أو طمعا في الجنة و هم أصحاب اليمين.
و قيل: معنى «من دونهما» بالقرب منهما، و يستفاد من السياق حينئذ أن هاتين الجنتين أيضا لأهل الجنتين المذكورتين قبلا بل ادعى بعضهم أن هاتين الجنتين أفضل من السابقتين و الصفات المذكورة فيهما أمدح.
و أنت بالتدبر فيما قدمناه في معنى لمن خاف مقام ربه و ما يستفاد من كلامه تعالى أن أهل الجنة صنفان: المقربون أهل الإخلاص و أصحاب اليمين تعرف قوة الوجه السابق.
قوله تعالى: «مدهامتان» الادهيمام من الدهمة اشتداد الخضرة بحيث تضرب إلى السواد و هو ابتهاج الشجرة.
قوله تعالى: «فيهما عينان نضاختان» أي فوارتان تخرجان من منبعهما بالدفع.
قوله تعالى: «فيهما فاكهة و نخل و رمان» المراد بالفاكهة و الرمان شجرتهما بقرينة النخل.
قوله تعالى: «فيهن خيرات حسان» ضمير «فيهن» للجنان باعتبار أنها جنتان من هاتين الجنتين، و قيل: مرجع الضمير الجنات الأربع المذكورة في الآيات، و قيل: الضمير للفاكهة و النخل و الرمان.
و أكثر ما يستعمل الخير في المعاني كما أن أكثر استعمال الحسن في الصور، و على هذا فمعنى خيرات حسان أنهن حسان في أخلاقهن حسان في وجوههن.
قوله تعالى: «حور مقصورات في الخيام» الخيام جمع خيمة و هي الفسطاط، و كونهن مقصورات في الخيام أنهن مصونات غير مبتذلات لا نصيب لغير أزواجهن فيهن.
قوله تعالى: «لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان» تقدم معناه.
قوله تعالى: «متكئين على رفرف خضر و عبقري حسان» في الصحاح،: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المجالس.
انتهى.
و قيل: هي الوسائد، و قيل: غير ذلك، و الخضر جمع أخضر صفة لرفرف، و العبقري قيل: الزرابي، و قيل: الطنافس، و قيل: الثياب الموشاة، و قيل: الديباج.
قوله تعالى: «تبارك اسم ربك ذي الجلال و الإكرام» ثناء جميل له تعالى بما امتلأت النشأتان الدنيا و الآخرة بنعمه و آلائه و بركاته النازلة من عنده برحمته الواسعة، و بذلك يظهر أن المراد باسمه المتبارك هو الرحمن المفتتحة به السورة، و التبارك كثرة الخيرات و البركات الصادرة.
فقوله: «تبارك اسم ربك» تبارك الله المسمى بالرحمن بما أفاض هذه الآلاء.
و قوله: «ذي الجلال و الإكرام» إشارة إلى تسميه بأسمائه الحسنى و اتصافه بما يدل عليه من المعاني الوصفية و نعوت الجلال و الجمال، و لصفات الفاعل ظهور في أفعاله و أثر فيها يرتبط به الفعل بفاعله فهو تعالى خلق الخلق و نظم النظام لأنه بديع خالق مبدىء فأتقن الفعل لأنه عليم حكيم و جازى أهل الطاعة بالخير لأنه ودود شكور غفور رحيم و أهل الفسق بالشر لأنه منتقم شديد العقاب.
فتوصيف الرب - الذي أثنى على سعة رحمته - بذي الجلال و الإكرام للإشارة إلى أن لأسمائه الحسنى و صفاته العليا دخلا في نزول البركات و الخيرات من عنده، و أن نعمه و آلاءه عليها طابع أسمائه الحسنى و صفاته العليا تبارك و تعالى.
بحث روائي
في المجمع،: و قد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة و بلسان من نار ثم ينادون: «يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم إلى قوله يرسل عليكما شواظ من نار»:. أقول: و روي هذا المعنى عن مسعدة بن صدقة عن كليب عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» 
قال: من علم أن الله يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و ابن منيع و الحكيم في نوادر الأصول و النسائي و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية «و لمن خاف مقام ربه جنتان» فقلت: «أ و إن زنى و إن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثانية «و لمن خاف مقام ربه جنتان» فقلت: و إن زنى و إن سرق؟ فقال: نعم و إن رغم أنف أبي الدرداء.
أقول: الرواية لا تخلو من شيء فإن الخوف من مقامه تعالى لا يجامع هذه الكبائر الموبقة، و قد روي عن أبي الدرداء نفسه ما يدفع هذه الرواية ففي الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء: في قوله: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» قال: قيل: يا أبا الدرداء و إن زنى و إن سرق؟ قال: من خاف مقام ربه لم يزن و لم يسرق.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «قاصرات الطرف» قال: الحور العين يقصر الطرف عنها من ضوء نورها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «قاصرات الطرف» قال: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «كأنهن الياقوت و المرجان» في الحديث أن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حرير.
أقول: و هذا المعنى وارد في عدة روايات.
و في تفسير العياشي، بإسناده عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: آية في كتاب الله مسجلة. قلت: و ما هي؟ قال: قول الله عز و جل: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» جرى في الكافر و المؤمن و البر و الفاجر، و من صنع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، و ليس المكافأة أن يصنع كما صنع حتى يربى فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء.
و في المجمع،: في قوله: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»: جاءت الرواية من أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة؟ و في تفسير القمي،: في الآية قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالمعرفة إلا الجنة.
أقول: الرواية مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد أسندها في التوحيد إلى جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها: أن الله عز و جل قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة.
و أسندها في العلل، إلى الحسن بن علي (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اللفظ: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله إلا الجنة؟: و روي الرواية بألفاظها المختلفة في الدر المنثور، بطرق مختلفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله: أنعمت عليه، إشارة إلى أن إحسان العبد بالحقيقة إحسان من الله إليه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و من دونهما جنتان»: عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت له: إن الناس يتعجبون منا إذا قلنا: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة فيقولون لنا فيكونون مع أولياء الله في الجنة؟ فقال يا علي إن الله يقول: «و من دونهما جنتان» ما يكونون مع أولياء الله.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» و قوله: «و من دونهما جنتان» قال: جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من ورق لأصحاب اليمين.
أقول: و الروايتان تؤيدان ما قدمناه في تفسير الآيتين.
و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي أيوب قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله: «مدهامتان» قال: خضراوان.
و في تفسير القمي، بإسناده إلى يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «نضاختان» قال: تفوران.
و فيه،: في قوله: «فيهن خيرات حسان» قال: جوار نابتات على شط الكوثر كلما أخذت منها نبتت مكانها أخرى.
و في المجمع،: في قوله: «خيرات حسان» أي نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه:. روته أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الفقيه، قال الصادق (عليه السلام): الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا و هن أجمل من الحور العين.
و في روضة الكافي، بإسناده عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «فيهن خيرات حسان» قال: هن صوالح المؤمنات العارفات.
أقول: و في انطباق الآية بالنظر إلى سياقها على مورد الروايتين إبهام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق