الجمعة، 21 سبتمبر 2012

«و لمن خاف مقام ربه جنتان» الرحمن 46

الميزان في تفسير القرآن
سورة الرحمن
31 - 78
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (78)
بيان
هذا هو الفصل الثاني من آيات السورة يصف نشأة الثقلين الثانية و هي نشأة الرجوع إلى الله و جزاء الأعمال و يعد آلاء الله تعالى عليهم كما كانت الآيات السابقة فصلا أولا يصف النشأة الأولى و يعد آلاء الله فيها عليهم.
قوله تعالى: «سنفرغ لكم أيه الثقلان» يقال: فرغ فلان لأمر كذا إذا كان مشتغلا قبلا بأمور ثم تركها و قصر الاشتغال بذاك الأمر اهتماما به.
فمعنى «سنفرغ لكم» سنطوي بساط النشأة الأولى و نشتغل بكم، و تبين الآيات التالية أن المراد بالاشتغال بهم بعثهم و حسابهم و مجازاتهم بأعمالهم خيرا أو شرا فالفراغ لهم استعارة بالكناية عن تبدل النشأة.
و لا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فإن الفراغ المذكور ناظر إلى تبدل النشأة و كونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة و سعتها كما لا ينافي كونه تعالى كل يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشئون كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.
و الثقلان الجن و الإنس، و إرجاع ضمير الجمع في «لكم» و «إن استطعتم» و غيرهما إليهما لكونهما جمعا ذا أفراد.
قوله تعالى: «يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا» إلخ، الخطاب - على ما يفيده السياق - من خطابات يوم القيامة و هو خطاب تعجيزي.
و المراد بالاستطاعة القدرة، و بالنفوذ من الأقطار الفرار، و الأقطار جمع قطر و هو الناحية.
و المعنى: يا معشر الجن و الإنس - و قدم الجن لأنهم على الحركات السريعة أقدر - إن قدرتم أن تفروا بالنفوذ من نواحي السماوات و الأرض و الخروج من ملك الله و التخلص من مؤاخذته ففروا و انفذوا.
و قوله: «لا تنفذون إلا بسلطان» أي لا تقدرون على النفوذ إلا بنوع من السلطة على ذلك و ليس لكم و السلطان القدرة الوجودية، و السلطان البرهان أو مطلق الحجة، و السلطان الملك.
و قيل: المراد بالنفوذ المنفي في الآية النفوذ العلمي في السماوات و الأرض من أقطارهما، و قد عرفت أن السياق لا يلائمه.
قوله تعالى: «يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران» الشواظ - على ما ذكره الراغب - اللهب الذي لا دخان فيه، و يقرب منه ما في المجمع، أنه اللهب الأخضر المنقطع من النار، و النحاس الدخان و قال الراغب: هو اللهب بلا دخان و المعنى ظاهر.
و قوله: «فلا تنتصران» أي لا تتناصران بأن ينصر بعضكم بعضا لرفع البلاء و التخلص عن العناء لسقوط تأثير الأسباب و لا عاصم اليوم من الله.
قوله تعالى: «فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان» أي كانت حمراء كالدهان و هو الأديم الأحمر.
قوله تعالى: «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان» الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة تصف الحساب و الجزاء تصف حال المجرمين و الخائفين مقام ربهم و ما ينتهي إليه.
ثم الآية تصف سرعة الحساب و قد قال تعالى: «و الله سريع الحساب»: النور: 39.
و المراد بيومئذ يوم القيامة، و السؤال المنفي هو النحو المألوف من السؤال، و لا ينافي نفي السؤال في هذه الآية إثباته في قوله: «و قفوهم إنهم مسئولون»: الصافات: 24، و قوله: «فو ربك لنسألنهم أجمعين»: الحجر: 92، لأن اليوم ذو مواقف مختلفة يسأل في بعضها، و يختم على الأفواه في بعضها و تكلم الأعضاء، و يعرف بالسيماء في بعضها.
قوله تعالى: «يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى و الأقدام» في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإذا لم يسألوا عن ذنبهم فما يصنع بهم؟ فأجيب بأنه يعرف المجرمون بسيماهم إلخ، و لذا فصلت الجملة و لم يعطف، و المراد بسيماهم علامتهم البارزة في وجوههم.
و قوله: «فيؤخذ بالنواصي و الأقدام» الكلام متفرع على المعرفة المذكورة، و النواصي جمع ناصية و هي شعر مقدم الرأس، و الأقدام جمع قدم، و قوله: «بالنواصي» نائب فاعل يؤخذ.
و المعنى: - لا يسأل أحد عن ذنبه - يعرف المجرمون بعلامتهم الظاهرة في وجوههم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام من المجرمين فيلقون في النار.
قوله تعالى: «هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون - إلى قوله - آن» مقول قول مقدر أي يقال يومئذ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، و قال الطبرسي: و يمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي و الأقدام قال للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم): هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك فسيردونها فليهن عليك أمرهم.
انتهى.
و الحميم الماء الحار، و الآني الذي انتهت حرارته و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» شروع في وصف حال السعداء من الخائفين مقام ربهم، و المقام مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى فاعله، و المراد قيامه تعالى عليه بعمله و هو إحاطته تعالى و علمه بما عمله و حفظه له و جزاؤه عليه قال تعالى: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت»: الرعد: 33.
و يمكن أن يكون المقام اسم مكان و الإضافة لامية و المراد به مقامه و موقفه تعالى من عبده و هو أنه تعالى ربه الذي يدبر أمره و من تدبير أمره أنه دعاه بلسان رسله إلى الإيمان و العمل الصالح و قضى أن يجازيه على ما عمل خيرا أو شرا هذا و هو محيط به و هو معه سميع بما يقول بصير بما يعمل لطيف خبير.
و الخوف من الله تعالى ربما كان خوفا من عقابه تعالى على الكفر به و معصيته، و لازمه أن يكون عبادة من يعبده خوفا بهذا المعنى يراد بها التخلص من العقاب لا لوجه الله محضا و هو عبادة العبيد يعبدون مواليهم خوفا من السياسة كما أن عبادة من يعبده طمعا في الثواب غايتها الفوز بما تشتهيه النفس دون وجهه الكريم و هي عبادة التجار كما في الروايات و قد تقدم شطر منها.
و الخوف المذكور في الآية - و لمن خاف مقام ربه - ظاهره غير هذا الخوف فإن هذا خوف من العقاب و هو غير الخوف من قيامه تعالى على عبده بما عمل أو الخوف من مقامه تعالى من عبده فهو تأثر خاص ممن ليس له إلا الصغار و الحقارة تجاه ساحة العظمة و الكبرياء، و ظهور أثر المذلة و الهوان و الاندكاك قبال العزة و الجبروت المطلقين.
و عبادته تعالى خوفا منه بهذا المعنى من الخوف خضوع له تعالى لأنه الله ذو الجلال و الإكرام لا لخوف من عقابه و لا طمعا في ثوابه بل فيه إخلاص العمل لوجهه الكريم، و هذا المعنى من الخوف هو الذي وصف الله به المكرمين من ملائكته و هم معصومون آمنون من عقاب المخالفة و تبعة المعصية قال تعالى: «يخافون ربهم من فوقهم»: النحل: 50.
فتبين مما تقدم أن الذين أشار إليهم بقوله: «و لمن خاف» أهل الإخلاص الخاضعون لجلاله تعالى العابدون له لأنه الله عز اسمه لا خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه، و لا يبعد أن يكونوا هم الذين سموا سابقين في قوله: «و كنتم أزواجا ثلاثة - إلى أن قال - و السابقون السابقون أولئك المقربون»: الواقعة: 11.
و قوله: «جنتان» قيل: إحداهما منزله و محل زيارة أحبابه له و الأخرى منزل أزواجه و خدمه، و قيل: بستانان بستان داخل قصره و بستان خارجه، و قيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر ليكمل به التذاذه، و قيل: جنة لعقيدته و جنة لعمله، و قيل: جنة لفعل الطاعات و جنة لترك المعاصي، و قيل: جنة جسمانية و جنة روحانية و هذه الأقوال - كما ترى - لا دليل على شيء منها.
و قيل: جنة يثاب بها و جنة يتفضل بها عليه، و يمكن أن يستشعر ذلك من قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35، على ما مر في تفسيره.
قوله تعالى: «ذواتا أفنان» ذواتا تثنية ذات، و «أفنان» إما جمع فن بمعنى النوع و المعنى: ذواتا أنواع من الثمار و نحوها، و إما جمع فنن بمعنى الغصن الرطب اللين و المعنى: ذواتا أغصان لينة أشجارهما.
قوله تعالى: «فيهما عينان تجريان» و قد أبهمت العينان و فيه دلالة على فخامة أمرهما.
قوله تعالى: «فيهما من كل فاكهة زوجان» أي صنفان قيل: صنف معروف لهم شاهدوه في الدنيا و صنف غير معروف لم يروه في الدنيا، و قيل: غير ذلك، و لا دلالة في الكلام على شيء من ذلك.
قوله تعالى: «متكئين على فرش بطائنها من إستبرق» إلخ، الفرش جمع فراش، و البطائن جمع بطانة و هي داخل الشيء و جوفه مقابل الظهائر جمع ظهارة، و الإستبرق الحرير الغليظ قال في المجمع،: ذكر البطانة و لم يذكر الظهارة لأن البطانة تدل على أن لها ظهارة و البطانة دون الظهارة فدل على أن الظهارة فوق الإستبرق، انتهى.
و قوله: «و جنى الجنتين دان» الجنى الثمر المجتنى و «دان» اسم فاعل من الدنو بمعنى القرب أي ما يجتنى من ثمار الجنتين قريب.
قوله تعالى: «فيهن قاصرات الطرف» إلى آخر الآية ضمير «فيهن» للفرش و جوز أن يرجع إلى الجنان فإنها جنان لكل واحد من أولياء الله منها جنتان، و الطرف جفن العين، و المراد بقصور الطرف اكتفاؤهن بأزواجهن فلا يردن غيرهم.
و قوله: «لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان» الطمث الافتضاض و النكاح بالتدمية، و المعنى: لم يمسسهن بالنكاح إنس و لا جان قبل أزواجهن.
قوله تعالى: «كأنهن الياقوت و المرجان» أي في صفاء اللون و البهاء و التلالؤ.
قوله تعالى: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» استفهام إنكاري في مقام التعليل لما ذكر من إحسانه تعالى عليهم بالجنتين و ما فيهما من أنواع النعم و الآلاء فيفيد أنه تعالى يحسن إليهم هذا الإحسان جزاء لإحسانهم بالخوف من مقام ربهم.
و تفيد الآية أن ما أوتوه من الجنة و نعيمها جزاء لأعمالهم و أما ما يستفاد من بعض الآيات أنهم يعطون فضلا وراء جزاء أعمالهم فلا تعرض في هذه الآيات لذلك إلا أن يقال: الإحسان إنما يتم إذا كان يربو على ما أحسن به المحسن إليه فإطلاق الإحسان في قوله: «إلا الإحسان» يفيد الزيادة.
قوله تعالى: «و من دونهما جنتان» ضمير التثنية للجنتين الموصوفتين في الآيات السابقة و معنى.
«من دونهما» أي أنزل درجة و أحط فضلا و شرفا منهما و إن كانتا شبيهتين بالجنتين السابقتين في نعمهما و آلائهما، و قد تقدم أن الجنتين السابقتين لأهل الإخلاص الخائفين مقام ربهم فهاتان الجنتان لمن دونهم من المؤمنين العابدين لله سبحانه خوفا من النار أو طمعا في الجنة و هم أصحاب اليمين.
و قيل: معنى «من دونهما» بالقرب منهما، و يستفاد من السياق حينئذ أن هاتين الجنتين أيضا لأهل الجنتين المذكورتين قبلا بل ادعى بعضهم أن هاتين الجنتين أفضل من السابقتين و الصفات المذكورة فيهما أمدح.
و أنت بالتدبر فيما قدمناه في معنى لمن خاف مقام ربه و ما يستفاد من كلامه تعالى أن أهل الجنة صنفان: المقربون أهل الإخلاص و أصحاب اليمين تعرف قوة الوجه السابق.
قوله تعالى: «مدهامتان» الادهيمام من الدهمة اشتداد الخضرة بحيث تضرب إلى السواد و هو ابتهاج الشجرة.
قوله تعالى: «فيهما عينان نضاختان» أي فوارتان تخرجان من منبعهما بالدفع.
قوله تعالى: «فيهما فاكهة و نخل و رمان» المراد بالفاكهة و الرمان شجرتهما بقرينة النخل.
قوله تعالى: «فيهن خيرات حسان» ضمير «فيهن» للجنان باعتبار أنها جنتان من هاتين الجنتين، و قيل: مرجع الضمير الجنات الأربع المذكورة في الآيات، و قيل: الضمير للفاكهة و النخل و الرمان.
و أكثر ما يستعمل الخير في المعاني كما أن أكثر استعمال الحسن في الصور، و على هذا فمعنى خيرات حسان أنهن حسان في أخلاقهن حسان في وجوههن.
قوله تعالى: «حور مقصورات في الخيام» الخيام جمع خيمة و هي الفسطاط، و كونهن مقصورات في الخيام أنهن مصونات غير مبتذلات لا نصيب لغير أزواجهن فيهن.
قوله تعالى: «لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان» تقدم معناه.
قوله تعالى: «متكئين على رفرف خضر و عبقري حسان» في الصحاح،: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المجالس.
انتهى.
و قيل: هي الوسائد، و قيل: غير ذلك، و الخضر جمع أخضر صفة لرفرف، و العبقري قيل: الزرابي، و قيل: الطنافس، و قيل: الثياب الموشاة، و قيل: الديباج.
قوله تعالى: «تبارك اسم ربك ذي الجلال و الإكرام» ثناء جميل له تعالى بما امتلأت النشأتان الدنيا و الآخرة بنعمه و آلائه و بركاته النازلة من عنده برحمته الواسعة، و بذلك يظهر أن المراد باسمه المتبارك هو الرحمن المفتتحة به السورة، و التبارك كثرة الخيرات و البركات الصادرة.
فقوله: «تبارك اسم ربك» تبارك الله المسمى بالرحمن بما أفاض هذه الآلاء.
و قوله: «ذي الجلال و الإكرام» إشارة إلى تسميه بأسمائه الحسنى و اتصافه بما يدل عليه من المعاني الوصفية و نعوت الجلال و الجمال، و لصفات الفاعل ظهور في أفعاله و أثر فيها يرتبط به الفعل بفاعله فهو تعالى خلق الخلق و نظم النظام لأنه بديع خالق مبدىء فأتقن الفعل لأنه عليم حكيم و جازى أهل الطاعة بالخير لأنه ودود شكور غفور رحيم و أهل الفسق بالشر لأنه منتقم شديد العقاب.
فتوصيف الرب - الذي أثنى على سعة رحمته - بذي الجلال و الإكرام للإشارة إلى أن لأسمائه الحسنى و صفاته العليا دخلا في نزول البركات و الخيرات من عنده، و أن نعمه و آلاءه عليها طابع أسمائه الحسنى و صفاته العليا تبارك و تعالى.
بحث روائي
في المجمع،: و قد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة و بلسان من نار ثم ينادون: «يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم إلى قوله يرسل عليكما شواظ من نار»:. أقول: و روي هذا المعنى عن مسعدة بن صدقة عن كليب عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» 
قال: من علم أن الله يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و ابن منيع و الحكيم في نوادر الأصول و النسائي و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية «و لمن خاف مقام ربه جنتان» فقلت: «أ و إن زنى و إن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثانية «و لمن خاف مقام ربه جنتان» فقلت: و إن زنى و إن سرق؟ فقال: نعم و إن رغم أنف أبي الدرداء.
أقول: الرواية لا تخلو من شيء فإن الخوف من مقامه تعالى لا يجامع هذه الكبائر الموبقة، و قد روي عن أبي الدرداء نفسه ما يدفع هذه الرواية ففي الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء: في قوله: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» قال: قيل: يا أبا الدرداء و إن زنى و إن سرق؟ قال: من خاف مقام ربه لم يزن و لم يسرق.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «قاصرات الطرف» قال: الحور العين يقصر الطرف عنها من ضوء نورها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «قاصرات الطرف» قال: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «كأنهن الياقوت و المرجان» في الحديث أن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حرير.
أقول: و هذا المعنى وارد في عدة روايات.
و في تفسير العياشي، بإسناده عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: آية في كتاب الله مسجلة. قلت: و ما هي؟ قال: قول الله عز و جل: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» جرى في الكافر و المؤمن و البر و الفاجر، و من صنع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، و ليس المكافأة أن يصنع كما صنع حتى يربى فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء.
و في المجمع،: في قوله: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»: جاءت الرواية من أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة؟ و في تفسير القمي،: في الآية قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالمعرفة إلا الجنة.
أقول: الرواية مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد أسندها في التوحيد إلى جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها: أن الله عز و جل قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة.
و أسندها في العلل، إلى الحسن بن علي (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اللفظ: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله إلا الجنة؟: و روي الرواية بألفاظها المختلفة في الدر المنثور، بطرق مختلفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله: أنعمت عليه، إشارة إلى أن إحسان العبد بالحقيقة إحسان من الله إليه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و من دونهما جنتان»: عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت له: إن الناس يتعجبون منا إذا قلنا: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة فيقولون لنا فيكونون مع أولياء الله في الجنة؟ فقال يا علي إن الله يقول: «و من دونهما جنتان» ما يكونون مع أولياء الله.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «و لمن خاف مقام ربه جنتان» و قوله: «و من دونهما جنتان» قال: جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من ورق لأصحاب اليمين.
أقول: و الروايتان تؤيدان ما قدمناه في تفسير الآيتين.
و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي أيوب قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله: «مدهامتان» قال: خضراوان.
و في تفسير القمي، بإسناده إلى يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «نضاختان» قال: تفوران.
و فيه،: في قوله: «فيهن خيرات حسان» قال: جوار نابتات على شط الكوثر كلما أخذت منها نبتت مكانها أخرى.
و في المجمع،: في قوله: «خيرات حسان» أي نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه:. روته أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الفقيه، قال الصادق (عليه السلام): الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا و هن أجمل من الحور العين.
و في روضة الكافي، بإسناده عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «فيهن خيرات حسان» قال: هن صوالح المؤمنات العارفات.
أقول: و في انطباق الآية بالنظر إلى سياقها على مورد الروايتين إبهام.

الميزان في تفسير القرآن سورة الفاتحة 6 - 7

الميزان في تفسير القرآن
سورة الفاتحة
6 - 7
اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)
بيان
قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلخ أما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط و أما الصراط فهو و الطريق و السبيل قريب المعنى، و قد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه و هو بمعنى الغاية للعبادة أي: إن العبد يسأل ربه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.
بيان ذلك: أن الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»: الإنشقاق - 6 و قال تعالى: «و إليه المصير: التغابن - 3، و قال: «ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات و هي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكوا سبيل، و أنهم سائرون إلى الله سبحانه.
ثم بين: أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم»: يس - 61.
فهناك طريق مستقيم و طريق آخر وراءه، و قال تعالى «فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون»: البقرة - 186، و قال تعالى: «ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين»: غافر - 60، فبين تعالى: أنه قريب من عباده و أن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته و دعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: «أولئك ينادون من مكان بعيد»: السجدة - 44 فبين: أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم و سبيلهم بعيدة.
فتبين: أن السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب و هو سبيل المؤمنين و سبيل بعيد و هو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل و هناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى: «إن الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء»: الأعراف - 40.
و لو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، و قال تعالى: «و من يحلل عليه غضبي فقد هوى»: طه - 81 و الهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر أخذ في السفالة و الانحدار، و قال تعالى: «و من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل»: البقرة - 108، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضل، و عند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام: من طريقه إلى فوق و هم الذين يؤمنون بآيات الله و لا يستكبرون عن عبادته، و من طريقه إلى السفل و هم المغضوب عليهم، و من ضل الطريق و هو حيران فيه و هم الضالون، و ربما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين.
و الصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث أعني: طريق المغضوب عليهم و طريق الضالين فهو من الطريق الأول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا أن قوله تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة - 11.
يدل على أن نفس الطريق الأول أيضا يقع فيه انقسام.
و بيانه: أن كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: «و من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل»: البقرة - 108.
و في هذا المعنى قوله تعالى «أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلا كثيرا»: يس - 62.
و القرآن يعد الشرك ظلما و بالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الأمر: «إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم»: إبراهيم - 22.
كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام - 82 و هو ظاهر من ترتيب الاهتداء و الأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم و لبس الإيمان به، و بالجملة الضلال و الشرك و الظلم أمرها واحد و هي متلازمة مصداقا، و هذا هو المراد من قولنا: إن كل واحد منها معرف بالآخر أو هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.
إذا عرفت هذا علمت أن الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك و لا ظلم البتة كما لا يقع فيه ضلال البتة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، و لا في ظاهر الجوارح و الأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، و هذا هو حق التوحيد علما و عملا إذ لا ثالث لهما و ما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و ينطبق على ذلك قوله تعالى: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام - 82، و فيه تثبيت للأمن في الطريق و وعد بالاهتداء التام بنائا على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
ثم إنه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى: «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا»: النساء - 68.
و قد وصف هذا الإيمان و الإطاعة قبل هذه الآية بقوله «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم و لو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم و أشد تثبيتا»: النساء - 66.
فوصفهم بالثبات التام قولا و فعلا و ظاهرا و باطنا على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة و مع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعا لأولئك المنعم عليهم و في صف دون صفهم لمكان مع و لمكان قوله: «و حسن أولئك رفيقا» و لم يقل: فأولئك من الذين.
و نظير هذه الآية قوله تعالى: «و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم لهم أجرهم و نورهم»: الحديد - 19.
و هذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء و الصديقين في الآخرة، لمكان قوله: عند ربهم، و قوله: لهم أجرهم.
فأولئك و هم أصحاب الصراط المستقيم أعلى قدرا و أرفع درجة و منزلة من هؤلاء و هم المؤمنون الذين أخلصوا قلوبهم و أعمالهم من الضلال و الشرك و الظلم، فالتدبر في هذه الآيات يوجب القطع بأن هؤلاء المؤمنين و شأنهم هذا الشأن فيهم بقية بعد، لو تمت فيهم كانوا من الذين أنعم الله عليهم، و ارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم و لعلهم نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة - 11.
فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدرا، يربو على نعمة الإيمان التام، و هذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
ثم إنه تعالى على أنه كرر في كلامه ذكر الصراط و السبيل لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، و عد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»: العنكبوت - 69.
و كذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلا ما في هذه الآية صراط الذين أنعمت عليهم الآية و لكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة»: يوسف - 108.
و قال تعالى «سبيل من أناب إلي»: لقمان - 15.
و قال: «سبيل المؤمنين»: النساء - 114، و يعلم منها: أن السبيل غير الصراط المستقيم فإنه يختلف و يتعدد و يتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى: «قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم»: المائدة - 16، فعد السبل كثيرة و الصراط واحدا و هذا الصراط المستقيم إما هي السبل الكثيرة و إما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض و اتحادها فيها.
و أيضا قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون»: يوسف - 106.
فبين أن من الشرك و هو ضلال ما يجتمع مع الإيمان و هو سبيل، و منه يعلم أن السبيل يجامع الشرك، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: و لا الضالين.
و التدبر في هذه الآيات يعطي أن كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، و أن كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه غير الآخر و يفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين أنه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة و غيرها كقوله: «و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم»: يس - 61.
و قوله تعالى: «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا»: الأنعام - 161.
فسمى العبادة صراطا مستقيما و سمى الدين صراطا مستقيما و هما مشتركان بين السبل جميعا، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أن للبدن أطوارا في حياته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبا و الطفولية و الرهوق و الشباب و الكهولة و الشيب و الهرم لكن الروح هي الروح و هي متحدة بها و البدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبه و تقتضيه الروح لو خليت و نفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها و البدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو الصراط المستقيم إلا أن السبيل كسبيل المؤمنين و سبيل المنيبين و سبيل المتبعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أن الإيمان و هو سبيل ربما يجامع الشرك و الضلال لكن لا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه و شوبه و قربه و بعده، و الجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.
و قد بين الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق و الباطل في كلامه، فقال تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال»: الرعد - 17.
فبين: أن القلوب و الأفهام في تلقي المعارف و الكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، و سيجيء تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، و بالجملة فهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
و إذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل إلى الله و الطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أن السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا و من غير شرط و قيد، و لذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما، فإن الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه و لا يدفعهم عن بطنه، و المستقيم هو الذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلط على نفسه و ما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، و يرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغير أمره و لا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته و إيصاله سالكيه إلى غايته و مقصدهم قال تعالى: «فأما الذين آمنوا بالله و اعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه و فضل و يهديهم إليه صراطا مستقيما»: النساء - 174.
أي لا يتخلف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائما، و قال تعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون و هذا صراط ربك مستقيما»: الأنعام - 126.
أي هذه طريقته التي لا يختلف و لا يتخلف، و قال تعالى: «قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين»: الحجر - 42.
أي هذه سنتي و طريقتي دائما من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: «فلن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا»: الفاطر - 42.
و قد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم أمور.
أحدها: أن الطرق إلى الله مختلفة كمالا و نقصا و غلاء و رخصا، في جهة قربها من منبع الحقيقة و الصراط المستقيم كالإسلام و الإيمان و العبادة و الإخلاص و الإخبات، كما أن مقابلاتها من الكفر و الشرك و الجحود و الطغيان و المعصية كذلك، قال سبحانه «و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون»: الأحقاف - 19.
و هذا نظير المعارف الإلهية التي تتلقاها العقول من الله فإنها مختلفة باختلاف الاستعدادات و متلونة بألوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها» الآية.
و ثانيها: أنه كما أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه و تولى أمرهم و ولاهم أمر هداية عباده حيث قال: «و حسن أولئك رفيقا»: النساء - 71.
و قال تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة و يؤتون الزكوة و هم راكعون»: المائدة - 55.
و الآية نازلة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالأخبار المتواترة و هو (عليه السلام) أول فاتح لهذا الباب من الأمة و سيجيء تمام الكلام في الآية.
و ثالثها: أن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه، و توضيح ذلك أن الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، و فيه أن تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، و غيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بإلى، و قوله هو الظاهر، و ما قيل: إن الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، و إذا تعدت بإلى فبمعنى إراءة الطريق، مستدلا بنحو قوله تعالى: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص - 56.
حيث إن هدايته بمعنى إراءة الطريق ثابتة فالمنفي غيرها و هو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: «و هديناهم صراطا مستقيما»: النساء - 70.
و قال تعالى: «و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم»: الشورى - 52.
فالهداية بالإيصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، و الهداية بإراءة الطريق بإلي، و فيه أن النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلا، و بعبارة أخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافا إلى أنه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: «يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد»: غافر - 38.
فالحق أنه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، و من الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار و بالجملة فالهداية هي الدلالة و إراءة الغاية بإراءة الطريق و هي نحو إيصال إلى المطلوب، و إنما تكون من الله سبحانه، و سنته سنة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب و يتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، و قد بينه الله سبحانه بقوله: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام»: الأنعام - 125.
و قوله: «ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء»: الزمر - 23.
و تعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل و الاطمينان، فهو إيجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله و يميل و يطمئن إليه، و كما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به.
و إلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت - 69.
إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، و بين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل و دفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فإنه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، و كذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.
و رابعها: أن الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها و درجاتها، صح أن يهدي الله الإنسان إليه و هو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى: اهدنا الصراط و هو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة من هذا القبيل، و لا يرد عليه: أن سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل و هو محال، و كذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل و لا يتعلق به سؤال، و الجواب ظاهر.
و كذا الإيراد عليه: بأن شريعتنا أكمل و أوسع من جميع الجهات من شرائع الأمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ و ذلك أن كون شريعة أكمل من شريعة أمر، و كون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر وراءه، فإن المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كون شريعته أكمل و أوسع ليس بأكمل من نوح و إبراهيم (عليه السلام) مع كون شريعتهما أقدم و أسبق، و ليس ذلك إلا أن حكم الشرائع و العمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها و التخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص و إن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل و أفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد و لم تستقر حياة المعرفة في روحه و لم يتمكن نور الهداية الإلهية من قلبه، و إن كان عاملا بالشريعة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) التي هي أكمل الشرائع و أوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة و يسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.
و من أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من أهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة: أن دين الله واحد و هو الإسلام، و المعارف الأصلية و هو التوحيد و النبوة و المعاد و ما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، و إنما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أن الأحكام الفرعية فيها أوسع و أشمل لجميع شئون الحياة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة و الموعظة و الجدال الأحسن، ثم إن الدين و إن كان دينا واحدا و المعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا، و تقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه و الاعتبار بما صاروا إليه هذا.
أقول: و هذا الكلام مبني على أصول في مسلك التفسير مخالفة للأصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنه مبني على أن حقائق المعارف الأصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب و الدرجات، و كذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية، فأفضل الأنبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود و كماله الخارجي التكويني على حد سواء، و إنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير أن يتكي على تكوين، كما أن التفاضل بين الملك و الرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الإنساني هذا.
و لهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، و هو القول بأصالة المادة و نفي الأصالة عما وراءها و التوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، و قد وقع في هذه الورطة من وقع، لأحد أمرين: إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية و إما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي.
و للكلام ذيل طويل سنورده في بعض الأبحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.
و خامسها: أن مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، و كذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبين مما مر: أن العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم، و أما ما هذا العلم؟ و كيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها»: الرعد - 17.
و يشعر بهذا المعنى قوله تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة - 11، و كذا قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: الملائكة - 10، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب و هو الاعتقاد و العلم، و أما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب و الأمداد دون الصعود إليه تعالى، و سيجيء تمام البيان في البحث عن الآية.
بحث روائي
في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا الله تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا الله عز و جل حبا، فتلك عبادة الأحرار، و هي أفضل العبادة.
و في نهج البلاغة،: إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، و إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.
و في العلل، و المجالس، و الخصال، عن الصادق (عليه السلام): إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء و هو الطمع، و آخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد، و هي رهبة، و لكني أعبده حبا له عز و جل فتلك عبادة الكرام، لقوله عز و جل: «و هم من فزع يومئذ آمنون». و لقوله عز و جل «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»، فمن أحب الله عز و جل أحبه، و من أحبه الله كان من الآمنين، و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون.
أقول: و قد تبين معنى الروايات مما مر من البيان، و توصيفهم (عليهم السلام) عبادة الأحرار تارة بالشكر و تارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فإن الشكر وضع الشيء المنعم به في محله، و العبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لأنه الله، أي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال و الجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال و الانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، و هو معبود لأنه جميل محبوب، و هو معبود لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.
و روي بطريق عامي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: إياك نعبد الآية، يعني: لا نريد منك غيرك و لا نعبدك بالعوض و البدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.
أقول: و الرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور و للإخلاص الذي ينافي قصد البدل.
و في تحف العقول، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنه يعبد الصفة و الموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، و من زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، و ما قدروا الله حق قدره.
الحديث.
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، و المبلغ إلى جنتك، و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.
أقول: و الروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شبهة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي، فالرواية الأولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا و الثانية إلى اتحادها مفهوما.
و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، و ارتفع عن التقصير و استقام، و في الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.
و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): في معنى صراط الذين الآية: أي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك، لا بالمال و الصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: و هم الذين قال الله: «و من يطع الله و الرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و حسن أولئك رفيقا».
و في العيون، عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عز و جل: قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل، إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدأ عبدي باسمي و حق علي أن أتمم له أموره، و أبارك له في أحواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله جل جلاله: حمدني عبدي، و علم أن النعم التي له من عندي، و أن البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، و إذا قال الرحمن الرحيم، قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه و لأجزلن من عطائي نصيبه فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، و لأتقبلن حسناته و لأتجاوزن عن سيئاته، فإذا قال: إياك نعبد، قال الله عز و جل: صدق عبدي، إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: و إياك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي و إلي التجأ، أشهدكم لأعيننه على أمره، و لأغيثنه في شدائده و لآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عز و جل: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل، و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمل و آمنته مما منه وجل. أقول: و روى قريبا منه الصدوق في العلل، عن الرضا (عليه السلام)، و الرواية كما ترى تفسر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه بالنيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة و إظهار العبودية من الثناء لربه و إظهار عبادته، فهي سورة موضوعة للعبادة، و ليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها و أعني بذلك: أولا: أن السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية و نصب نفسه في مقام العبودية.
و ثانيا: أنها مقسمة قسمين، فنصف منها لله و نصف منها للعبد.
و ثالثا: أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على إيجازها و اختصارها فإن القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية و ما يتفرع عليها من الفروع من أخلاق و أحكام في العبادات و المعاملات و السياسات و الاجتماعيات و وعد و وعيد و قصص و عبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد و النبوة و المعاد و فروعاتها، و إلى هداية العباد إلى ما يصلح به أولاهم و عقباهم، و هذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ و أوضح معنى.
و عليك أن تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في إنجيل متى: و هو ما نذكره بلفظة العربي، «أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، و اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، و لا تدخلنا في تجربة و لكن نجنا من الشرير آمين».
تأمل في المعاني التي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنها معارف سماوية، و ما يشتمل عليه من الأدب العبودي، أنها تذكر أولا أن أباهم و هو الله تقدس اسمه في السماوات! ثم تدعو في حق الأب بتقدس اسمه و إتيان ملكوته و نفوذ مشيته في الأرض كما هي نافذة في السماء، و لكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الأحزاب السياسية أشبه؟ ثم تسأل الله إعطاء خبز اليوم و مقابلة المغفرة بالمغفرة، و جعل الإغماض عن الحق في مقابل الإغماض، و ما ذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقا؟ و تسأله أن لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، و من المحال ذلك، فالدار دار الامتحان و الاستكمال و ما معنى النجاة لو لا الابتلاء و الامتحان؟ ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين من علماء الغرب و تبعه بعض من المنتحلين: أن الإسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإن جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد و تصفية النفوس بالخلق الفاضل و العمل الصالح، و إنما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية.
بحث آخر روائي
في الفقيه، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام).
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام) قال: هي الطريق إلى معرفة الله، و هما صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنم.
و في المعاني، أيضا عن السجاد (عليه السلام) قال: ليس بين الله و بين حجته حجاب، و لا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله و نحن الصراط المستقيم و نحن عيبة علمه، و نحن تراجمة وحيه و نحن أركان توحيده و نحن موضع سره.
و عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي، عن أسباط و مجاهد، عن ابن عباس: في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، قال: قولوا معاشر العباد: أرشدنا إلى حب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أهل بيته (عليهم السلام).
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و هذه الأخبار من قبيل الجري، و عد المصداق للآية، و اعلم أن الجري و كثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ففي تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و ما فيها حرف إلا و له حد، و لكل حد مطلع ما يعني بقوله: ظهر و بطن؟ قال؟ ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء منه شيء وقع الحديث.
و في هذا المعنى روايات أخر، و هذه سليقة أئمة أهل البيت فإنهم (عليهم السلام) يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد و إن كان خارجا عن مورد النزول، و الاعتبار يساعده، فإن القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد و واجب الخلق و واجب العمل، و ما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال و لا زمان، دون زمان و ما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعة من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد و لا عصر دون عصر لعموم التشريع.
و ما ورد من شأن النزول و هو الأمر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها و يموت بموتها لأن البيان عام و التعليل مطلق، فإن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم و هكذا، و القرآن أيضا يدل عليه، قال تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه»: المائدة - 16 و قال: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه»: حم سجدة - 42.
و قال تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر - 9.
و الروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم (عليهم السلام) أو على أعدائهم أعني: روايات الجري، كثيرة في الأبواب المختلفة، و ربما تبلغ المئين، و نحن بعد هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.

الميزان في تفسير القرآن سورة الفاتحة 1 - 5

الميزان في تفسير القرآن
سورة الفاتحة
1 - 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
بيان
قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل و يقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا، أو ليكون ذكرى يذكرهم به، و مثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية فربما يسمون المولود الجديد من الإنسان، أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة أسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد، و يبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمي ولده باسم والده ليحيي بذلك ذكره فلا يزول و لا ينسى.
و قد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز اسمه ليكون ما يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، و ليكون أدبا يؤدب به العباد في الأعمال و الأفعال و الأقوال، فيبتدءوا باسمه و يعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا، لأنه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك و البطلان إليه.
و ذلك أن الله سبحانه يبين في مواضع من كلامه: أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، و أنه: سيقدم إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم، فيجعله هباء منثورا، و يحبط ما صنعوا و يبطل ما كانوا يعملون، و أنه لا بقاء لشيء إلا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم و صنع باسمه هو الذي يبقى و لا يفنى، و كل أمر من الأمور إنما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، و هذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر الحديث ".
و الأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أن متعلق الباء في البسملة أبتدىء بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدأ بها الكلام بما أنه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، و وحدة الكلام بوحدة مدلوله و معناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة و هو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، و الغرض المحصل منه.
و قد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال: «تعالى قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين يهدي به الله» الآية: المائدة - 16 إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: أن الغاية من كتابه و كلامه هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرحمن الرحيم، فهو الله الذي إليه مرجع العباد، و هو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن و الكافر، مما فيه خيرهم في وجودهم و حياتهم، و هو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين و هو سعادة آخرتهم و لقاء ربهم و قد قال تعالى: «و رحمتي وسعت كل شيء و سأكتبها للذين يتقون»:. الأعراف - 156.
فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.
ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى: «فأتوا بسورة مثله»: يونس - 38.
و قوله: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات»: هود - 13.
و قوله تعالى: «إذا أنزلت سورة»: التوبة - 86.
و قوله: «سورة أنزلناها و فرضناها»: النور - 1.
فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه التي فصلها قطعا قطعا، و سمي كل قطعة سورة نوعا من وحدة التأليف و التمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة و لا بين سورة و سورة، و من هنا نعلم: أن الأغراض و المقاصد المحصلة من السور مختلفة، و أن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص و لغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه، و على هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.
فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصل منه، و الغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله بإظهار العبودية له سبحانه بالإفصاح عن العبادة و الاستعانة و سؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام إظهار العبودية بما أدبه الله به.
و إظهار العبودية من العبد هو العمل الذي يتلبس به العبد، و الأمر ذو البال الذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى باسمك أظهر لك العبودية.
فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء و يراد به تتميم الإخلاص في مقام العبودية بالتخاطب.
و ربما يقال إنه الاستعانة و لا بأس به و لكن الابتداء أنسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى: «و إياك نستعين».
و أما الاسم، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة و كيف كان فالذي يعرفه منه اللغة و العرف هو اللفظ الدال و يستلزم ذلك أن يكون غير المسمى، و أما الإسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الأعيان لا من الألفاظ و هو مسمى الاسم بالمعنى الأول كما أن لفظ العالم من أسماء الله تعالى اسم يدل على مسماه و هو الذات مأخوذة بوصف العلم و هو بعينه اسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه إلا بوصف من أوصافه و نعت من نعوته و السبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الألفاظ، ثم وجدوا أن الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات و تدل عليه حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية، فسموا هذه الأوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فأنتج ذلك أن الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا، ثم وجدوا أن الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، و أن الاسم بالمعنى الأول إنما يدل على الذات بواسطته، و لذلك سموا الذي بالمعنى الثاني اسما، و الذي بالمعنى الأول اسم الاسم، هذا و لكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري و لا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.
و قد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الأول من الإسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره و طالت المشاجرات فيه، و لكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم اتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة و لا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل و ما يقال فيها و العناية بإبطال ما هو الباطل و إحقاق ما هو الحق فيها، فالصفح عن ذلك أولى.
و أما لفظ الجلالة، فالله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، و إله من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحير، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لأنه معبود أو لأنه مما تحيرت في ذاته العقول، و الظاهر أنه علم بالغلبة، و قد كان مستعملا دائرا في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى: «و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله»: الزخرف - 87.
و قوله تعالى: «فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا»: الأنعام - 136.
و مما يدل على كونه علما أنه يوصف بجميع الأسماء الحسنى و سائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: الله الرحمن الرحيم و يقال: رحم الله و علم الله، و رزق الله، و لا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها و لا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها.
و لما كان وجوده سبحانه، و هو إله كل شيء يهدي إلى اتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، و صح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال و إلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة أله.
و أما الوصفان: الرحمن الرحيم، فهما من الرحمة، و هي وصف انفعالي و تأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه و رفع حاجته، إلا أن هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء و الإفاضة لرفع الحاجة و بهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة.
و الرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة، و الرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات و البقاء و لذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن و الكافر و هو الرحمة العامة، و على هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن، قال تعالى: «الرحمن على العرش استوى»: طه - 5.
و قال: «قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا»: مريم - 75.
إلى غير ذلك، و لذلك أيضا ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة و الرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما قال تعالى: «و كان بالمؤمنين رحيما»: الأحزاب - 43.
و قال تعالى: «إنه بهم رءوف رحيم»: التوبة - 117.
إلى غير ذلك، و لذلك قيل: إن الرحمن عام للمؤمن و الكافر و الرحيم خاص بالمؤمن.
و قوله تعالى: الحمد لله، الحمد على ما قيل هو الثناء على الجميل الاختياري و المدح أعم منه، يقال: حمدت فلانا أو مدحته لكرمه، و يقال: مدحت اللؤلؤ على صفائه و لا يقال: حمدته على صفائه، و اللام فيه للجنس أو الاستغراق و المال هاهنا واحد.
و ذلك أن الله سبحانه يقول: «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء»: غافر - 62.
فأفاد أن كل ما هو شيء فهو مخلوق لله سبحانه، و قال: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة - 7.
فأثبت الحسن لكل شيء مخلوق من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه، فالحسن يدور مدار الخلق و بالعكس، فلا خلق إلا و هو حسن جميل بإحسانه و لا حسن إلا و هو مخلوق له منسوب إليه، و قد قال تعالى: «هو الله الواحد القهار»: الزمر - 4.
و قال: «و عنت الوجوه للحي القيوم»: طه - 111.
فأنبأ أنه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر و لا يفعل ما فعل بإجبار من مجبر بل خلقه عن علم و اختيار فما من شيء إلا و هو فعل جميل اختياري له فهذا من جهة الفعل، و أما من جهة الاسم فقد قال تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى»: طه - 8.
و قال تعالى «و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه»: الأعراف - 180.
فهو تعالى جميل في أسمائه و جميل في أفعاله، و كل جميل منه.
فقد بان أنه تعالى محمود على جميل أسمائه و محمود على جميل أفعاله، و أنه ما من حمد يحمده حامد لأمر محمود إلا كان لله سبحانه حقيقة لأن الجميل الذي يتعلق به الحمد منه سبحانه، فلله سبحانه جنس الحمد و له سبحانه كل حمد.
ثم إن الظاهر من السياق و بقرينة الالتفات الذي في قوله: «إياك نعبد» الآية أن السورة من كلام العبد، و أنه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه و ما ينبغي أن يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية، و هو الذي يؤيده قوله: «الحمد لله».
و ذلك أن الحمد توصيف، و قد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات - 160.
و الكلام مطلق غير مقيد، و لم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوح (عليه السلام)«فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين»: المؤمنون - 28.
و قال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام)«الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق»: إبراهيم - 39.
و قال تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في بضعة مواضع من كلامه: «و قل الحمد لله»: النمل - 93.
و قال تعالى حكاية عن داود و سليمان (عليهما السلام) «و قالا الحمد لله»: النمل - 15.
و إلا ما حكاه عن أهل الجنة و هم المطهرون من غل الصدور و لغو القول و التأثيم كقوله. «و آخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين»: يونس - 10.
و أما غير هذه الموارد فهو تعالى و إن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى: «و الملائكة يسبحون بحمد ربهم»: الشورى - 5.
و قوله «و يسبح الرعد بحمده»: الرعد - 13 و قوله و إن من شيء إلا يسبح بحمده»: الإسراء - 44.
إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الأصل في الحكاية و جعل الحمد معه، و ذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله و كمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته و أسمائه التي منها جمال الأفعال، قال تعالى: «و لا يحيطون به علما»: طه - 110 فما وصفوه به فقد أحاطوا به و صار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه و يسبحوه عن ما حدوه و قدروه بأفهامهم، قال تعالى: «إن الله يعلم و أنتم لا تعلمون»: النحل - 74، و أما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده و وصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان أن الذي يقتضيه أدب العبودية أن يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه و لا يتعدى عنه، كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)" لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث " فقوله في أول هذه السورة: الحمد لله، تأديب بأدب عبودي ما كان للعبد أن يقوله لو لا أن الله تعالى قاله نيابة و تعليما لما ينبغي الثناء به.
و قوله تعالى: رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إه و قرأ الأكثر ملك يوم الدين فالرب هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، و معنى الملك الذي عندنا في ظرف الاجتماع هو نوع خاص من الاختصاص و هو نوع قيام شيء بشيء يوجب صحة التصرفات فيه، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه: أن لها نوعا من القيام و الاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها و لو لا ذلك لم تصح تلك التصرفات و هذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي و هو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا، و هو نحو قيام أجزاء وجودنا و قوانا بنا فإن لنا بصرا و سمعا و يدا و رجلا، و معنى هذا الملك أنها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا و لنا أن نتصرف فيها كيف شئنا و هذا هو الملك الحقيقي.
و الذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذي يبطل ببطلان الاعتبار و الوضع، و من المعلوم أن الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فإن الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده، فهو تعالى رب لما سواه لأن الرب هو المالك المدبر و هو تعالى كذلك.
و أما العالمين: فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب و الخاتم و الطابع بمعنى ما يقلب به و ما يختم به و ما يطبع به، يطلق على جميع الموجودات و على كل نوع مؤلف الأفراد و الأجزاء منها كعالم الجماد و عالم النبات و عالم الحيوان و عالم الإنسان و على كل صنف مجتمع الأفراد أيضا كعالم العرب و عالم العجم و هذا المعنى هو الأنسب لما يئول إليه عد هذه الأسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على أن يكون الدين و هو الجزاء يوم القيامة مختصا بالإنسان أو الإنس و الجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس و الجن و جماعاتهم و يؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى «و اصطفاك على نساء العالمين»: آل عمران - 42.
و قوله تعالى: «ليكون للعالمين نذيرا»: فرقان - 1، و قوله تعالى: «أ تأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين»: الأعراف - 80.
و أما مالك يوم الدين فقد عرفت معنى المالك و هو المأخوذ من الملك بكسر الميم، و أما الملك و هو مأخوذ من الملك بضم الميم، فهو الذي يملك النظام القومي و تدبيرهم دون العين، و بعبارة أخرى يملك الأمر و الحكم فيهم.
و قد ذكر لكل من القرائتين، ملك و مالك وجوه من التأييد غير أن المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى، و الذي تعرفه اللغة و العرف أن الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلاني، و لا يقال مالك العصر الفلاني إلا بعناية بعيدة، و قد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، و قال أيضا: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: غافر - 16.
بحث روائي
في العيون، و المعاني، عن الرضا (عليه السلام): في معنى قوله: بسم الله قال (عليه السلام): يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله و هي العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة.
أقول و هذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فإن العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته.
و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام)، و في العيون، و تفسير العياشي، عن الرضا (عليه السلام): أنها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.
أقول: و سيجيء معنى الرواية في الكلام على الاسم الأعظم.
و في العيون، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنها من الفاتحة و أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأها و يعدها آية منها، و يقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني أقول: و روي من طرق أهل السنة و الجماعة نظير هذا المعنى فعن الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أم القرآن و السبع المثاني، و بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها.
و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: ما لهم؟ قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها.
و عن الباقر (عليه السلام): سرقوا أكرم آية في كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم، و ينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.
أقول و الروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، و هي جميعا تدل على أن البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة، و في روايات أهل السنة و الجماعة ما يدل على ذلك.
ففي صحيح مسلم، عن أنس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم.
و عن أبي داود عن ابن عباس و قد صححوا سندها قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يعرف فصل السورة، و في رواية انقضاء السورة حتى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرحيم.
أقول و روي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر (عليه السلام).
و في الكافي، و التوحيد، و المعاني، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و الله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة.
و روي عن الصادق (عليه السلام): الرحمن اسم خاص بصفة عامة و الرحيم اسم عام بصفة خاصة.
أقول: قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن و الكافر و اختصاص الرحيم بالمؤمن، و أما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة و الرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا و يعم الكافر و المؤمن و الرحيم عام للدنيا و الآخرة و يخص المؤمنين، و بعبارة أخرى: الرحمن يختص بالإفاضة التكوينية التي يعم المؤمن و الكافر، و الرحيم يعم التكوين و التشريع الذي بابه باب الهداية و السعادة، و يختص بالمؤمنين لأن الثبات و البقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم و العاقبة للتقوى.
و في كشف الغمة، عن الصادق (عليه السلام) قال: فقد لأبي (عليه السلام) بغلة فقال لئن ردها الله علي لأحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتي بها بسرجها و لجامها فلما استوى و ضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء و قال الحمد لله و لم يزد، ثم قال ما تركت و لا أبقيت شيئا جعلت أنواع المحامد لله عز و جل، فما من حمد إلا و هو داخل فيها.
قلت: و في العيون، عن علي (عليه السلام): أنه سئل عن تفسيرها فقال: هو أن الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا.
أقول: يشير (عليه السلام) إلى ما مر من أن الحمد، من العبد و إنما ذكره الله بالنيابة تأديبا و تعليما.
بحث فلسفي
البراهين العقلية ناهضة على أن استقلال المعلول و كل شأن من شئونه إنما هو بالعلة، و أن كل ما له من كمال فهو من أظلال وجود علته، فلو كان للحسن و الجمال حقيقة في الوجود فكماله و استقلاله للواجب تعالى لأنه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل، و الثناء و الحمد هو إظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر و هو لا محالة علته و إذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء و حمد تعود و تنتهي إليه تعالى، فالحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى: إياك نعبد و إياك نستعين الآية، العبد هو المملوك من الإنسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى: «إن كل من في السموات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا»: مريم - 93.
و العبادة مأخوذة منه و ربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، و ما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الأخذ بلازم المعنى و إلا فالخضوع متعد باللام و العبادة متعدية بنفسها.
و بالجملة فكان العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه و لذلك كانت العبادة منافية للاستكبار و غير منافية للاشتراك فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى: «إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين»: غافر - 60.
و قال تعالى: «و لا يشرك بعبادة ربه أحدا»: الكهف - 110 فعد الإشراك ممكنا و لذلك نهى عنه، و النهي لا يمكن إلا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فإنه لا يجامعها.
و العبودية إنما يستقيم بين العبيد و مواليهم فيما يملكه الموالي منهم، و أما ما لا يتعلق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة و لا عبودية، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه و لا أن العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شيء منه مملوكا و شيء، آخر غير مملوك، و لا تصرف من التصرفات فيه جائز و تصرف آخر غير جائز كما أن العبيد فيما بيننا شيء منهم مملوك و هو أفعالهم الاختيارية و شيء غير مملوك و هو الأوصاف الاضطرارية، و بعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم و بعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا، فهو تعالى مالك على الإطلاق من غير شرط و لا قيد و غيره مملوك على الإطلاق من غير شرط و لا قيد فهناك حصر من جهتين، الرب مقصور في المالكية، و العبد مقصور في العبودية، و هذه هي التي يدل عليه قوله: إياك نعبد.
حيث قدم المفعول و أطلقت العبادة.
ثم إن الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر، فلا يكون حاجبا عن مالكه و لا يحجب عنه، فإنك إذا نظرت إلى دار زيد فإن نظرت إليها من جهة أنها دار أمكنك أن تغفل عن، زيد و إن نظرت إليها بما أنها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها و هو زيد.
و لكنك عرفت أن ما سواه تعالى ليس له إلا المملوكية فقط و هذه حقيقته فشيء منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، و لا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه: «أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط»: حم السجدة - 54، و إذا كان كذلك فحق عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين.
أما من جانب الرب عز و جل، فأن يعبد عبادة معبود حاضر و هو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى إياك نعبد عن الغيبة إلى الحضور.
و أما من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى و جسدا من غير روح أو يتبعض فيشتغل بربه و بغيره، إما ظاهرا و باطنا كالوثنيين في عبادتهم لله و لأصنامهم معا أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات و الأغراض كان يعبد الله و همه في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى:«فاعبد الله مخلصا له الدين»: الزمر - 2، و قال تعالى: «ألا لله الدين الخالص و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون»: الزمر - 3.
فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد و هو الحضور الذي ذكرناه، و قد ظهر أنه إنما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته و لم يتعلق.
قلبه في عبادته رجاء أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، و لم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الإنية و الاستكبار، و كان الإتيان بلفظ المتكلم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة فإن فيه هضما للنفس بإلغاء تعينها و شخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنية و الاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة و خلطها بسواد الناس فإن فيه إمحاء التعين و إعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.
و قد ظهر من ذلك كله: أن إظهار العبودية بقوله: إياك نعبد لا يشتمل على نقص من حيث المعنى و من حيث الإخلاص إلا ما في قوله: إياك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود و القدرة و الإرادة مع أنه مملوك و المملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى و إياك نستعين، أي إنما ننسب العبادة إلى أنفسنا و ندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: إياك نعبد و إياك نستعين لإبداء معنى واحد و هو العبادة عن إخلاص، و يمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة و العبادة في السياق الخطابي حيث قيل إياك نعبد و إياك نستعين من دون أن يقال: إياك نعبد أعنا و اهدنا الصراط المستقيم و أما تغيير السياق في قوله: اهدنا الصراط الآية.
فسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
فقد بان بما مر من البيان في قوله إياك نعبد و إياك نستعين الآية الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، و الوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول، و الوجه في إطلاق قوله: نعبد، و الوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير، و الوجه في تعقيب الجملة الأولى بالثانية، و الوجه في تشريك الجملتين في السياق، و قد ذكر المفسرون نكات أخرى في أطراف ذلك من أرادها فليراجع كتبهم و هو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.